يا بيض ياسود مافيش رمادى

لأننا أسرى نظرية "الانطباعات الأولى تدوم" فمن السهل أن تقول عندما تقابل وجهاً جديداً "يا ساتر.. دمه يلطش!!" أو أن تقول "ده عسل... حتة سكر"!

هكذا، ومن الدقائق الخمس الأولى قد حددت بعبقرية فذة هوية من يقف أمامك، حتى لو ظلّ صامتاً طوال الوقت، فليس بصعب أن تصفه بأنه "مغرور"، و"متعجرف"، و"بيبص من فوق لتحت بقرف"!!

وإذا ما تحدث فهو "متحذلق" و"بيستعرض معلوماته"!
ومن السهل أن تغير آراءك هذه إذا كان الوجه الذي أمامك وجه أنثى جميلة فعندئذ "مثقفة" و"عندها كاريزما" و"بتدفي المكان أول ما هلّت بطلعتها البهية"!!
لابد أنك رأيت هذا المشهد المؤسف كثيراً: المرأة الجميلة التي تدخل فتلتهمها أعين الموظفين، ويقومون باستضافتها، وقضاء طلبها في دقائق معدودة، في نفس الوقت يوجد رجل أحق منها بالتقديم وقضاء الأوراق!

لكن المرأة "الجميلة" لديها من المؤهلات الشكلية ما يجعلها رائعة وأحق بالتقديم!

هل هذا يعني شيئاً؟! ليس بالضبط، فنحن مازلنا في البداية...
الواقع أن البشرية ابتليت منذ البداية بذوي القطب الواحد، حيث رفض الآخر، ومع مرور الوقت تعددت صور هذا الرفض، فمن الرفض الكلامي غير المنطقي، إلى القتال بالأسلحة، وإفناء شعوب بأسرها لفرض الآراء والمعتقدات..
بنيت الدنيا على الاختلاف.. التعدد.. منتدى الثقافات كما يقول الدكتور "محمد عمارة".. ومن الخطأ البالغ أن تتعامل مع الآخر بمنطق معك أو ضدك، فهذا يعني أنك ستخسر الكثير من الشخصيات الإنسانية بالغة الجمال، والرقي، دعك من أنك لن تجد أحداً يعتقد اعتقاداً كلياً بما تعتقده.. لابد من اختلاف..

وبغض النظر عن الخلاف الذي يؤدي إلى اختلاف، والذي يجعل المرء يستل سلاحه، فسنركز على الاختلاف النسبي في العقيدة، والأفكار الحرة التي لا تستوجب من بعض الناس أن يصعروا بخدودهم اشمئزازاً و"قرفاً"، ولكنه -للأسف الشديد- يحدث، وبكثرة...

بدءاً من قائمة تعامل الأشخاص العاديين مع بعضهم البعض...

فمثلاً: هذا المدرس أنفه طويل!

هذا بالضرورة يستتبع قائمة طويلة من التداعيات، فهو غير مخلص في عمله، وغير وقور، وعندما تضيّق الخناق على صاحب الحديث يقول لك وهو ينفخ:
أنا من الآخر مش قابله.. طابق على مراوحي!

الأمر يثير الدهشة بالفعل، فلوجود شيء لا يروق لك، تستطيع أن تحكم على فلان بأنه غير جدير بعمله، وأنه، وأنه... إلخ.

وهذا يعني أننا غير موضوعيين في آرائنا، أو أحكامنا على الناس..
هذه نقطة.. النقطة الثانية حتى لو فرضنا وجود ما ندّعيه في الشخص المقصود، فلا أرى مبرراً أبداً يتطلب منا أن نرفضه..

"جان جاك روسو" الفيلسوف الفرنسي العبقري كان "هلاّساً" ولا مؤاخذة حيث كان أباً للعديد من الأبناء غير الشرعيين، لكن هل هذا يمنع كونه من أفضل المفكرين، وواضعي الدساتير؟!

"نابليون بونابرت" بجلالة قدره كان يتحول لطفل صغير، باكٍ أمام زوجته، وكان يعلم بخيانتها له، لكن هذا لا يمنع أنه من أفضل القادة العسكريين في التاريخ!

"هتلر" كان قاسياً جداً، وتسببت سياساته في إشعال الحرب، ومصرع الآلاف، لكنه –أيضاً- شخصية قيادية جبارة، وخطيب مفوّه!
كنت أطبق نظرية "خذ الورق وارمِ العود للنار"، ومعناها: أن تأخذ ما ينفعك، وما يرفعك لأعلى، وما يزيد من خبراتك، وأن تترك ما يمكن أن يسبب لك الضرر.

خذ الورق الأخضر، وألقِ بالعود الجاف في النار تلتهمه ولا تبالي!

هل هي نظرية صعبة؟!
لكننا تعودنا أن نقبل بعنف، أو نرفض بعنف، وكأن الألوان كلها تنحصر بين الأبيض والأسود!!
ألا توجد ألوان أخرى؟!!

سمعت الكثيرين ممن يشتمون "عمرو خالد" بأقذع الألفاظ، وعندما تسألهم عن سرّ هذه الكراهية لواحد من أفضل دعاة العصر ستسمع إجابات غريبة:
إنت مش شايف إنه مش مربي دقنه!

ده بيسمح للبنات إنهم ييجوا للدروس بتاعته وهم مش محجبات!

شفت إزاي بيتعامل مع " تامر حسني"؟ هو ناقص شهرة؟!!

وهكذا -وبجرة قلم واحدة- تمّ مسح تاريخ "عمرو خالد" كله من محاضرات، وندوات، وتجديد، وثورة فكرية مهمة لو جاز التعبير، ليتحول إلى شخص فيه كل الصفات السيئة!!
حتى لو فرضنا أن ما تقولونه صحيح، فهل هذا مبرر لكي تهدموا تاريخ الرجل؟!

لماذا تعودنا دائماً أن ننظر لنصف الكوب المليء أو الخالي فقط؟ لكن تكوين صورة كاملة للكوب هو من الصعوبة بمكان!

غص في صفحات النت ستجد أن الشيخ "يوسف القرضاوي" قد اتُّهِمَ بالكثير من الأشياء التي أخجل من ذكرها عن عالم جليل قال عنه الشيخ "محمد الغزالي" إنه واحد من الثقات!

"محمد الغزالي" نفسه لم يسلم من "طولة اللسان" واتهامه في دينه لهنات وجدوها في كتبه، وفسروها كما يريدون! وحتى لو فرضنا وجود هذه الهنات، لماذا لا نطبق مقولة "لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة"، أم أن أخطاءنا تصير طبيعية، وأخطاء الآخرين يستحقون عليها الجلد؟!!
أما عن الإعلام فقد وجدت أناساً لا تعجبهم قناة الناس! هذا حقهم في التعبير، لكن استمع للمبررات:
دى قناة بتنيم الناس.. ماشفتش إنها ماجابتش ولا حرف في انتخابات الرئاسة، ولا حتى المادة 76؟

يا سلام!! وحتى لو فرضنا أنها تفعل هذا، وإنها -ولا مؤاخذة- قناة جبانة، فهل هذا مبرر لكي ننسى البرامج الدينية الرائعة التي دخلت كل بيت، والموضوعات الجميلة التي يبثها كبار العلماء، والدعاة المتميزون!

أجدادنا كانوا ينقلون الكتب اليونانية وما فيها من وثنية، وأخذوا منها ما يصلح معهم، وتركوا ما يتعارض مع الدين الحنيف، فهل حدث ما ينقص من قدرنا؟!!
هناك عقائد وثنية مليئة بالباطل، لكن هل هذا يمنع أن نقرأها ونأخذ منها الصالح، فـ"الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها، فهو أحق بها"... أليس هذا ما علمنا ديننا إياه؟!!
والياباني شخص وثني، فإذا حدثته عن السماء أحنى رأسه في احترام!!

لهذا تقدم اليابانيون، بينما نحن في مؤخرة القافلة نعيش على ذكريات أسلافنا العظام!

لابد أن نفهم ونعقل، وإلا فلن تقوم لنا قائمة في عالم يوجد فيه الأبيض والأسود، وألوان أخرى!!

ربنا يستر يا فاطمة