شهر رمضان على الأبواب، كل عام وأنتم بخير.. وعندما نقول رمضان؛ فإنما نشير إلى المغفرة والرحمة والعتق من النيران، نشير إلى الخير الذي أعده الله لعباده الصالحين المتقين؛ فهيا بنا نتعرف عليه معاً، ونعرف عنه أكثر لعلنا نحسن استقباله بقلوب صافية وعقول واعية.
متى فرض رمضان؟
فرض في السنة الثانية من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
كم رمضاناً صامه النبي؟
9 رمضانات، والأعجب من هذا أن الصيام فرض في نفس السنة التي فرض فيها الجهاد، وبينهما شهر واحد؛ فالجهاد فرض في رمضان، وصيام رمضان فرض في شعبان من نفس العام، والحكمة في ذلك كبيرة جداً؛ وكأن الله يريد أن يقول: إن الصيام يعلم جهاد النفس، وإذا أجدتَ جهاد النفس كنتَ مؤهلاً لجهاد الأعداء. وليست صدفة أن أعظم المعارك في تاريخ الإسلام كانت في رمضان مثل غزوة بدر، فتح مكة، معركة القادسية، عين جالوت، نزول المسلمين الأندلس، فتح جزيرة رودس، معركة نهاوند، 6 أكتوبر، وكأن المعنى أن هذا الشهر -وفيه جهاد النفس- يعلي القدرة على جهاد الأعداء بتضاعف أضعاف مضاعفة؛ فأعدوا أنفسكم فيه؛ لأن واقع المسلمين لن يتغير إلا بناس صائمين بحق.
ما مراحل فرض الصيام؟
فرض الصيام مر بمرحلتين: مرحلة اختيارية: فيوم أن هاجر النبي إلى المدينة كان يوم عاشوراء، وكان اليهود يصومونه؛ فقال النبي -وقتها- نحن أولى بموسى من اليهود؛ ولكنه لم يأمر بصيام هذا اليوم إجبارياً.
وجاءت المرحلة الثانية مرحلة فرض الصيام: ولكن مرحلة فرض الصيام مرت بمرحلتين..
المرحلة الأولى صعبة جداً؛ فبدأ وقت الصيام طويلاً؛ وكانت بدايته لو أن أحداً نام بعد المغرب أو صلى العشاء ولم يفطر يتوقف عن الطعام والشراب إلى المغرب من اليوم التالي؛ فحصلت عدة حوادث؛ فمنها أن سيدنا عمر بن الخطاب عاد إلى بيته، ووجد زوجته قد نامت فأيقظها وطلبها لحاجته؛ فقالت: إني كنت نائمة؛ ولكنه قال لها: لم تنامي، واقترب منها، وعاد إلى النبي في الصباح يقول: "هل لي من عذر عند الله".
وحدثت قصة أخرى لواحد من الصحابة يدعى أبا قيس، وهذه كنيته، رجع من حقله بعد المغرب جائعاً جداً فقال لزوجته: عجّلي بالطعام فقد أذن المغرب، وبعد تجهيزها للطعام عادت فوجدته قد نام؛ فاضطر إلى الصيام إلى اليوم التالي؛ فأرهق إرهاقاً شديداً حتى سقط مغشياً عليه؛ فنزل قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. ليعلّم الله الأمة ولتحس برحمة الله بك.
ماذا يعني الصيام؟
الامتناع عن الطعام والشراب، ثم التقوى؛ ولكن قد يأتي لي أحد، ويقول لي: ماذا في ذلك يجلب التقوى للصائم؟ أقول له: أول حاجة تضعف سيطرة البدن على الروح؛ فكل المخلوقات العاقلة خلقت من مادة واحدة، أما الإنسان فقد خلقه الله من مادتين: الجسد: وهو الغلاف الخارجي، وداخله تجويف تدخل فيه الروح، ولكل منهما مصدر مختلف: الجسد مصدره الأرض؛ تراب الأرض، والروح مصدرها نفخة علوية؛ فيقول الله تبارك وتعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]؛ فأنت بداخلك الاثنان، والاثنان عكس بعض؛ فالروح لن تستطيع أن تنطلق إلا إذا ساعدها الجسد، وكلاً منهما له غذاؤه، وغذاء كل واحد منهما مرتبط بالمنطقة التي جاء منها؛ فغذاء الجسد طعام وشراب وعلاقة حسية بين الرجل والمرأة، أما غذاء الروح فركعتان في جوف الليل وذكر الله وصدقة. وكما يحتاج الجسد إلى الأكل والشرب والشهوات تحتاج الروح إلى غذائها.
ومشكلتنا أننا نصر على تغذية حاجة واحدة فقط؛ فيحدث لك اكتئاب وضيق، وأيضاً كي تعالج اكتئابك تصر على أن تغذي الجسد، فتعود مكتئباً أكثر مما كان. وعلاقة ذلك العكسية بالصيام قوية جداً؛ لأن الصيام يقول لك: توقف عن تغذية الجسد وابدأ بتغذية الروح؛ فيحدث أن تسمو الروح؛ فهذه أول غاية الصيام وهي تخفيف "قيود الجسد على الروح".
والغاية الثانية التي يحققها الصيام متعلقة بالشهوة: ولابد أن تعرف أن أكثر غريزة تؤثر على الإنسان هي غريزة الجنس، والعلماء يقولون: إن المحرك الأساسي للسلوك الإنساني هو الغريزة الجنسية؛ فالصيام نظم الغريزة الجنسية؛ فعندما تقل الغريزة الجنسية في رمضان تحدث التقوى.
وهناك أيضاً شيئان يقويهما الصيام: الأول: مجاهدة النفس؛ وما التقوى إلا مجاهدة النفس، ويقوي الصيامُ العلاقات الاجتماعية، ومصاحبة الصالحين، ومن كثرة مصاحبة الصالحين تحدث التقوى؛ فحكمة الصيام التقوى، وهي أن يجدك الله حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك.
حلاوة وفضل شهر رمضان
هناك حديث للنبي صلى الله عليه وسلم، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "خَطَبَنا النبي صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان؛ فقال: "أيها الناس قد أظلكم شهر كريم عظيم مبارك، شهر فيه ليلة هي خير من ألف شهر، جعل الله صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير؛ كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، من فطَّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئاً؛ فقالوا: يا رسول الله، ليس كلنا من يجد شيئاً يفطر به الصائم؟ فقال النبي: يعطي الله الثواب من فطر صائماً على تمرة أو على شربة ماء أو على مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار".
وانظر إلى هذا الحديث، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاكم شهر رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر إلى تنافسكم في الخير، ويباهي بكم الملائكة؛ فأروا الله من أنفسكم خيراً؛ فإن الشقي من حُرم رحمة الله عز وجل".
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة باباً يقال له الريّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم؛ فيقال: أين الصائمون؛ فإذا دخل آخرهم؛ فلا يدخل بعدهم أحد".
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
ويقول أيضاً: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
ويقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهم إذا اجتُنبت الكبائر".
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إذا دخل شعبان: "اللهم بارك لنا في شعبان وبلّغنا رمضان". ولك أن تدرك أن النبي لم يدعُ بطول العمر إلا من أجل رمضان، ولذلك لابد أن ندعو أن يبلغنا الله رمضان، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى هذا الحديث: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ فيقول الصيام: أيْ ربي منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل؛ فشفعني فيه فيشفعان".
وفي حديث رواه البخاري ومسلم يقول النبي: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وسُلسلت الشياطين"؛
فهل فتح أبواب الجنة وإغلاق النار هذا مجاز؟ إذ بكثرة ما يُكثّر الله تبارك وتعالى من الحسنات والثواب في رمضان يصبح الإنسان مؤهلاً لدخول الجنة؟ لكن العلماء يقولون: إن هذا ليس مجازا؛ فالجنة تفتح والنار تغلق فعلاً، وتسُلسل بالفعل الشياطين الأشداء أي أخطر الشياطين وأكثرهم قوة.
ومع ذلك هناك أناس في رمضان أشد عصياناً في رمضان منها في غير رمضان؛ فمعنى ذلك أن نفسه أشد قوة وسيطرة عليه من شيطانه؛ فيقول النبي: "إذا جاء رمضان نادى مناد: يا باغي الخير أقبل، يا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار في رمضان وذلك كل ليلة" رواه الترمذي.
وهناك حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: "للصائم عند فطره دعوة لا ترد"؛ فدعوتك ساعة الإفطار مستجابة يقيناً.
ويقول النبي: "رغم أنف عبد أدرك رمضان ولم يُغفر له"، ويقصد أنه بؤساً لعبد أدرك رمضان ولم يغفر له.
ويقول النبي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل؛ فإن شاتمه أحد أو قاتله فيقل: إني امرؤ صائم إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر، فرح بفطره وإذا لقي الله فرح بصومه" رواه البخاري.
فاللهم اجعلنا من الصائمين القائمين الخاشعين الراكعين
الساجدين.. وتقبل منا إنك أنت الغفور الرحيم.
****