هناك أخبار وموضوعات يتم نشرها في مصر وكأنها تٌخرج لسانها للناس على اعتبار أنها -أي الأخبار- تدرك تماما أنها "تشتغل" الناس وتدرك أيضا -أي الأخبار برضه- أن الناس تدرك أن هذه الأخبار "تشتغلهم" لكنهم لا يستطيعون فعل أي شيء سوى ابتلاعها مرغمين مع بعض من الهمز واللمز والكثير من الصمت.
ومن ده كتير.. الكلام اليومي المكرر الممل عن الإصلاح السياسي في مصر.. وعن ارتفاع معدلات الديمقراطية في البلاد لحد لم يحدث في "ميانمار" التي ثار فيها الرهبان على الحكام.. حدوث انتخابات حرة نزيهة.. الحزب الوطني يرعى حرية الصحافة.. ارتفاع مستوى التعليم.. القضاء على الأمية.. ارتفاع مستوى الدخل.. القضاء على الفساد.. وافتح أي جورنال حكومي أو اتفرج على نشرة الساعة 9 في التليفزيون المصري وكمل القائمة بنفسك، لكن بصراحة ما نشرته جريدة أخبار اليوم -في عدد 6 أكتوبر.. لاحظ قداسة التاريخ وأهميته- "أوفر.. أوفر".. حرام يعني بجد!
ما نشر هو تحقيق بعنوان ضخم "بناء وصناعة وزراعة.. بدلا من الأحجار والأسلاك الشائكة".. ده فين يا ولاد؟ "في أكبر عملية تطوير للسجون".. ثم العناوين الفرعية.. "تجديد 28 سجنا وبناء 14 مقرا جديدا"، ثم خد التقيلة بقى "وتزويدها بالخدمات ووسائل الترفيه".
تفاصيل التحقيق -الذي تشعر أنه مكتوب في مقر أمن الدولة بلاظوغلي وليس في 6 شارع الصحافة حيث مقر مؤسسة دار أخبار اليوم- تحكي عن أي جنة يعيشها سجناء مصر في محبسهم.. فهناك -في السجون- 13 مصنعا كبيرا للأثاث والملابس والحلاوة الطحينية -لاحظ التنوع بين الصناعات الثقيلة والخفيفة هذا يعطيك أملا في أن تخرج أول سيارة صنعها أحفاد الفراعنة من إحدى قلاع مصر "السجنية" الصناعية!- ثم هناك استصلاح لـ1000 فدان زراعي و18 محطة لتربية الأغنام والماعز وتسمين الماشية وأخرى للأرانب والنعام -شفت الرفاهية يعني المسجونين في مصر بيربوا نعام في حين أن هناك مصريين خارج السجون عمرهم ما شافوا النعام ده إلا في برنامج عالم الحيوان وهو بيجري قبل ما الأسد ياكله!
أما عن مستوى التعليم -بحسب تحقيق أخبار اليوم- داخل السجون المصرية فمذهل.. إذ تم محو أمية 5 آلاف سجين -وهو أمر مغرٍ جدا بأن تتولى إدارة السجون شئون هيئة محو الأمية التي فشلت في مهمتها منذ إنشائها عام 1991 وحتى وقتنا هذا.. وعلى إيه ما ندخل كل الأميين وهم 30% من تعداد السكان السجن أهو منهم يتعلموا والزحمة تخف شوية!- ليس هذا فحسب بل إن هناك 3 آلاف سجين في المرحلة الجامعية -أهي دي ممكن نصدقها على اعتبار أنهم من الطلاب الذين تم اعتقالهم أثناء دراستهم الجامعية لممارسة أنشطة لا تعجب الحكومة.
أما رائعة التحقيق -أو نشرة أخبار السجون المصرية.. سمها كما تشاء- فكانت الخاتمة التي تقول بأنه تم تزويد السجون بـ3 آلاف تليفزيون -ملون طبعا- وٌزعت على كل العنابر -ولم يوضح الموضوع ما إذا كانت التليفزيونات متصلة بدش يتابعون عبره الجزيرة وأخواتها أم اكتفوا بـ"الوصلة الشهيرة" التي تنقل لهم خليطا لما لذ وطاب من قنوات الناس والميلودي- بالإضافة إلى مكتبات عامرة في كل السجون تضم 100 ألف كتاب -على اعتبار أن القراءة للجميع مثلما هو السجن كذلك.
الجميل أن السيد اللواء المسئول الذي أملى هذه البيانات والأرقام المبهجة قال للمحرر إن الخطة القادمة تقتضي بناء 14 سجنا جديدا فيما يٌجرى حاليا بناء 5 أخرى على أن يتم إخلاء 6 سجون قديمة لإعادة بنائها في مكان آخر أكثر اتساعا!.. يعني هناك 25 سجنا جديدا سيتم بناؤها في الفترة القادمة.. واضح -جدا وطبعا- أنهم لا يفعلون ذلك لأن معدل الجريمة زاد -وهو دلالة بالغة على تردي الأحوال الاجتماعية والاقتصادية- أو لأنهم ينتوون شن حملة كبيرة لاعتقال عدد جديد من الناشطين في السياسة والصحافة الذين تخطوا الخطوط الحمراء -وهذا أكبر مؤشر على حالة الديمقراطية والحرية في البلاد- وإنما يفعلون ذلك بناء على الطلبات الكثيرة التي انهالت عليهم من المواطنين البسطاء الأميين العاطلين المحرومين من العمل في مصانع الأثاث ومن أكل الحلاوة الطحينية والذين لا يرون النعام إلا في برنامج "عالم الحيوان" من أجل أن يلتحقوا بجنة السجون المصرية التي يدخلها الواحد "مجرم" و"تاجر مخدارت" و"قاتل" ليخرج منها مواطنا صالحا يحب بلده ويغني لها مبتهجا ساعة عصاري "مصر هي أمي سجونها بتجري في دمي".
اللطيف أنه بعد ثلاثة أيام فقط من قراءتي هذا التحقيق الأسطوري كنت أسير في أحد شوارع القاهرة عندما وجدت صفا طويلا من سيارات الأمن المركزي المتراصة على الجانب في تحفز كألف نمر شرس، -كالمعتاد ودون أن تعرف سببا لذلك سوى بث الفزع في قلوب الناس- ولفت نظري تكدس رجال الأمن المركزي في السيارة المصفحة المصممة بشكل يجعلها أشبه بعربة ترحيلات المساجين.. فلا تهوية ولا جلسة آدمية، ولمحت بأم وأبي عيني هذه جنودا من تهالكهم ومن "فرهدتهم" بفعل الحر وقد ناموا فوق بعضهم البعض وسط بحور من العرق.. يومها صعب عليّ -لأول مرة- حال الجنود الذين رأيت فيهم تجسيدا لحال الشعب المصري اللطيف المهاود المحروم من جنة السجون في أراضيه التي لو ظلت محتفظة بتميزها هذا لربما أصبح الدخول إليها بأسبقية الحجز وبالفيزا كارد كمان.. ويومها هتفت بعلو الصوت "ياريتني كنت معاهم".. باتكلم عن المساجين طبعا!